من يضع الخطة؟ قراءة نقدية في صناعة الاستشارات الإدارية
في هذا المقال نتأمل في تطور صناعة الاستشارات الإدارية العالمية من جذورها المبكرة إلى تأثيرها العميق على ثقافة الإدارة، التعليم، وصناعة القرار السياسي، ونتساءل: هل أصبحت هذه الشركات تصنع العقل الإداري بدلًا من أن تخدمه؟ ومتى يصبح العقل المستقل ضرورة لا رفاهية؟

متى بدأ العالم يستعين بـ"عقل خارجي"؟
إذا أردنا تتبع الجذور الأولى لمجال الاستشارات الإدارية، فإننا لا ننطلق من وول ستريت أو سيليكون فالي، بل من عقلية ما بعد الثورة الصناعية، حين أدركت الشركات الكبرى في أوائل القرن العشرين أن النمو السريع لا يكفي، بل يجب أن يُدار ويُهيكل ويُعاد تصميمه.
في عام 1926، وُلدت شركة McKinsey & Company على يد جيمس أوزبورن ماكينزي، محاضر في جامعة شيكاغو، كان يؤمن بأن على الشركات أن تُدار كما تُدار الحكومات: بخطط واضحة، وتحليلات صارمة، وبعقل مستقل عن التحيزات الداخلية. ماكينزي لم يكن مستشارًا فقط، بل مهندسًا لنقل الإدارة من الحدس إلى التحليل، من "الرؤية" إلى "المنهج".
ثم جاء الآخرون: Boston Consulting Group (BCG) في الستينات، التي قدمت للعالم مفاهيم مثل "مصفوفة النمو"، وBain & Company، التي ركزت على النتائج التنفيذية لا النظريات، وDeloitte وPwC وEY وKPMG، التي جمعت بين الاستشارات والمراجعة المالية، مما عزز موثوقيتها لدى صناع القرار.
ماذا تضيف هذه الشركات؟
لا يمكن إنكار أن شركات الاستشارات الإدارية الكبرى قدمت أدوات معرفية كبرى:
-
تحليل السلاسل القيمية (Value Chain Analysis)
-
إعادة هيكلة المؤسسات
-
تصميم نماذج الأعمال الجديدة
-
استراتيجيات الدخول للأسواق
-
تقييم الأداء المالي والتشغيلي
-
التحول الرقمي والابتكار
كما أسهمت في تحولات استراتيجية لكبرى الشركات مثل:
-
IBM في مرحلة التحول نحو الخدمات
-
شركة نيسان في إعادة الهيكلة تحت كارلوس غصن
-
عدد من حكومات الخليج في رسم ملامح الرؤى الوطنية
الاستشاري لا يبيع منتجًا، بل يبيع احتمالًا: "ماذا لو طبّقت هذا النموذج؟" – وهذه الفرضية تصبح ذات سحر بالغ عندما يكون الداخل غارقًا في التفاصيل.
أين تكمن الإشكالية؟
غير أن هذه الشركات لم تخلُ من نقد فلسفي وأخلاقي حاد:
-
غياب التنفيذ: تقدم حلولًا أنيقة، لكنها كثيرًا ما تترك التنفيذ لفرق داخلية تفتقر لفهم النموذج المقترح. وهنا يتكرّس الانفصال بين العقل والتطبيق.
-
تكرار النمط: بعض الحلول "جاهزة مسبقًا"، تُطبَّق على شركات من قطاعات مختلفة، رغم اختلاف السياقات، مما يثير أسئلة حول الخصوصية الفكرية.
-
الانبهار بالتحليل لا النتائج: يتحول المشروع إلى دراسة متقنة، لكنها غير مرتبطة بمؤشرات أداء واقعية.
-
القرب السياسي: في بعض الدول، أصبحت هذه الشركات طرفًا في صنع القرار الحكومي، ما يثير إشكالات تتعلق بالشفافية، خاصة في الدول ذات نظم المساءلة المحدودة.
العملاء الكبار – من يشتري "العقل التحليلي"؟
لا تقتصر قاعدة العملاء على القطاع الخاص فقط. بل نجد:
-
الحكومات: إصلاحات التعليم والصحة، التحولات الاقتصادية.
-
المؤسسات المالية: البنوك العالمية، الصناديق السيادية.
-
الشركات العملاقة: Google، Unilever، Procter & Gamble، BMW.
وبينما يرى البعض في هذه الشراكة بين الاستشاري والعميل فرصة لصناعة القرار المدروس، يرى آخرون أنها خصخصة غير مباشرة للعقل المؤسسي، حين يصبح القرار منتجًا مستوردًا لا تجربةً نابعة من الداخل.
أثر الشركات الإستشارية في قطاع التعليم: حين تُكتب المناهج من خارج أسوار الجامعات
في العقود الأخيرة، بدأنا نشهد تداخلاً غير معلن بين ما تقدمه شركات الاستشارات من أدوات ونماذج، وبين ما يُدرس في كليات الإدارة والاقتصاد.
أصبح ما يُفترض به أن يكون "تعليمًا نقديًا" يتحوّل تدريجيًا إلى إعادة إنتاج لأدبيات الشركات الاستشارية. لا بأس في أن تتقاطع المعرفة، لكن الخطر يكمن حين تتحوّل نماذج تحليل السوق إلى "حقائق مطلقة"، وتُدرّس للطلاب كما لو كانت قوانين نيوتن، لا أدوات ظرفية تعتمد على السياق.
تُرى، ما الفرق بين تعليم مبادئ الإدارة، وبين تدريب على نماذج استشارية هدفها الربح لا الفهم؟
هذه الشركات أعادت تشكيل المناهج، لا عبر المؤلفات فقط، بل من خلال "شراكات استراتيجية" مع الجامعات، وتمويل مراكز أبحاث، وابتعاث أساتذة إلى معاهدها التدريبية. وهنا لا نكون أمام تلاقٍ معرفي، بل أمام هندسة فكرية ناعمة، تُصمم العقول لتفكر كما تريد هذه الشركات، لا كما يفرض الواقع.
أثر الشركات الإستشارية على الإدارة التنفيذية: ثقافة الإدارة… هل تغيّرت؟
ما تفعله الشركات الاستشارية الكبرى في العقل الإداري اليوم، يُشبه ما فعله الإعلام في تفضيل الصورة على المعنى.
منذ دخول الاستشارات إلى صميم ثقافة المؤسسات، تحوّلت الإدارة من "فن إدارة البشر والموارد نحو غاية" إلى "فن استخدام الأدوات بشكل يبدو عقلانيًا على الورق".
كثير من القادة الإداريين اليوم يتفاخرون بـ"اللغة الاستشارية": مصفوفات، مؤشرات، KPI، تحول رقمي، Value Proposition، Design Thinking، دون أن يكون لهذه العبارات أثر حقيقي على ثقافة المنظمة أو أداءها التشغيلي أو الاقتصادي.
تم استبدال الوضوح بالمصطلحات الغامضة، والرؤية بالعرض التقديمي، والقيادة بالتحليل.
وهكذا، لا تصنع الاستشارة استراتيجية ناجحة بقدر ما تصنع انطباعًا ذكيًا أمام مجلس الإدارة. وهنا يُصبح العقل الإداري ضحية لا مساعدًا، تابعًا لا صانعًا.
أثر الشركات الاستشارية في الجانب السياسي: العقل السياسي تحت عدسة المستشار
في كثير من الدول النامية والناشئة، بدأنا نرى حكومات تعتمد على شركات استشارات لوضع استراتيجياتها الوطنية، أو تصميم إصلاحاتها الكبرى.
الاستعانة بعقل خارجي لا مشكلة فيها من حيث المبدأ، خصوصًا في المسائل الفنية. لكن حين تتحوّل الرؤية الوطنية إلى مشروع صادر من عقل استشاري أجنبي، لا يعكس فهمًا دقيقًا للبنية الاجتماعية، ولا يُراعي الخصوصيات الثقافية، فإننا لا نُخطط للمستقبل، بل نستورد نسخةً مستحيلة منه.
الاستشارة في الشأن السياسي لا تُقاس بذكاء المقترح، بل بمدى الترجمة الواقعية له في بنية المجتمع. كثير من الخطط التي بدت مذهلة على الورق، فشلت لأن من كتبها لم يكن يعايش التفاصيل، ولم يدرك الفروق الدقيقة في الوعي الجمعي والذاكرة التاريخية للمجتمع.
هل يجب أن نرفض أم نعيد تعريف الدور؟
الحكمة ليست في الرفض المطلق ولا في القبول الأعمى.
إن شركات الاستشارات الإدارية تمثل مرآة مكبرة للعقل المؤسسي: تكشف ما لا يراه الداخل، لكنها لا تستطيع أن تمشي بدلاً عنه. ولهذا، فإن أكبر خطأ ترتكبه أي منظمة – أو دولة – هو أن تعتمد على عقل خارجي لتفكر نيابة عنها، لا معها.
الاستشارة قيمة، لكنها لا تعوّض عن بناء الكفاءة الداخلية. وكل خطة استراتيجية – حكومية أو مؤسساتية – لا يشارك في صناعتها المنفّذ، ستظل ملفًا أنيقًا ينتظر الغبار.
متى نكفّ عن الانبهار؟
شركات الاستشارات الكبرى ليست عدوًا، لكنها ليست مرجعية مقدسة. يجب أن تُقرأ وتُستخدم وتُستشار، لكن لا يجب أن تفكر نيابةً عن المجتمع، أو عن المنظمة، أو عن القائد.
في زمن كثرت فيه المؤشرات واللوحات البيانية، بات من السهل أن تخدعك الأرقام لا لأنها كاذبة، بل لأنها تُقدَّم في غياب البعد الإنساني والتاريخي والواقعي.
الاستشارة الجيدة تبدأ حين يكون لدينا عقل ناقد، لا حين يكون لدينا عقل عاجز. وحين نرى في هذه الشركات أداةً لا عقيدة، فإننا نُعيد لأنفسنا الحق في الفهم، والحق في الاختلاف.